المدينةمراكش

جمعية منية مراكش تنظم محترفا علميا وفنيا في فن تسطير الزليج المغربي

تنظم جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته، خلال الفترة الممتدة من 18 إلى 23 أكتوبر 2025، محترفا علميا وفنيا لتلقين فن تسطير الزليج المغربي، وذلك بمقر الجمعية برياض الجبل الأخضر في المدينة العتيقة لمراكش.

ويهدف هذا المحترف إلى إحياء تقنيات التسطير التقليدية وتوسيع آفاقها من خلال العلوم الرياضية الحديثة والتقنيات الرقمية، مما يجعله تجربة فريدة من نوعها تجمع بين الإرث الفني والمعرفة العلمية.

ويشرف على تأطير الورشات العالم الرياضي والخبير في الأنماط الهندسية جان مارك كاستيرا، بمساعدة كاترين ميسان، بمشاركة نخبة من طلبة المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بمراكش، وتلاميذ الإعداديات، إلى جانب مهتمين بفنون الزخرفة والهندسة والرياضيات.

وينقسم برنامج المحترف إلى مرحلتين متكاملتين، تشمل كل واحدة عرضا نظريا وتطبيقات عملية، ويُطلب من المشاركين خلال الجزء التطبيقي إعادة اكتشاف زخارف الزليج التقليدي بأنفسهم، عبر تجميع القطع وفق قواعد دقيقة، بهدف إبداع تركيبات هندسية جميلة ومتناسقة، سواء بشكل فردي أو جماعي، لكن دون روح تنافسية، بل بروح التعاون والإبداع المشترك.

ويتم التركيز بشكل خاص على فن الزليج النجمي، لما يتطلبه من دقة رياضية وهندسية عالية، مع إبراز إمكانيات تنفيذ نفس الأنماط بزخارف وتقنيات مختلفة كالنقش على الجبس أو الخشب المزوق والمنحوت.

ويأخذ المحترف المشاركين في جولة معرفية عبر أنماط الزليج المغربية والأندلسية، مسلطا الضوء على أهمية الرقم 8 والمثمن النجمي، مع مقارنات مع أنماط الزليج في مصر، سوريا، فارس، والهند، مما يمنح رؤية شاملة لتطور هذا الفن عبر الثقافات الإسلامية.

ويعرض المحترف ثلاث مقاربات مختلفة لتسطير الزليج:

1- طريقة “الحسبة” التقليدية: تعتمد على أدوات بسيطة (المسطرة والبركار)، وتتبع “وصفات” هندسية خاصة بكل نمط.

2- طريقة المعلم بن عمر: تقنية مغربية أصيلة تعتمد على الرسم اليدوي على ورق مُربّع، تتيح حرية أكبر في الإبداع رغم اعتمادها على التقريب.

3- طريقة PIC (Polygons in Contact): تقنية حديثة طورها باحثون غربيون منذ 1925، تشتغل على شبكات هندسية من مضلعات متلامسة، وهي منهجية لم تُستخدم من قِبل المعلمين المغاربة، لكنها تُعرض ضمن الورشة لأغراض معرفية.

ويُختتم هذا المحور بالتطرق إلى الروابط الممكنة مع نظرية التبليط الرياضية، على أن يُفصل فيها لاحقا ضمن العروض العلمية للمحترف.

الزليج علم وعمل.. ذاكرة الصنعة بمراكش

تحكي الذاكرة الحضرية واكتشافات التنقيب الأثري أن في مدينة مراكش الحمراء، تفتحت أولى ملامح فن الزليج المغربي الأصيل. لم يكن الزليج مجرد زخرفة تُزيّن الجدران، بل كان تُرْجمانا روحيا وَلُغَةً بصريةً تُجسّد العمل المغربي في صفائه وتناسقه الهندسي.

ففي قبة المرابطين، التي ما تزال قائمةً إلى اليوم قبالة باب الجامع اليوسفي يمكن للزائر أن يلمس البذور الأولى لنهضة الزليج: خطوط هندسية دقيقة، وبدايات زخارف تحمل في طياتها وعدًا بمستقبل زاهر لهذا الفن بمادتين أوليتين: الجير الأبيض والتراب الأحمر الآجوري.

ومع مجيء الدولة الموحدية، ازداد الزليج نضجًا وتألقًا. فقد أَوْلى الموحدون العمارة عناية بالغة، فشيّدوا المساجد والقصور والمدارس فنحوا بعمارتهم بصرامة إلى الخط المستقيم خلافا لما انطبعت به عمارة الصنهاجيين التي تبنت الخط المنحني الدائري. ومن بين ما شيد الموحدون جامع الكتبيين الذي ظل شاهدًا على فن يجمع بين الصرامة الهندسية والجمال الروحي. في هذه الحقبة، تطورت تقنيات صناعة الزليج، وتوسّعت ورشاته في مراكش، ليصير عنصرًا رئيسيًا في البناء لا غنى عنه. لقد أراد الموحدون من خلاله أن يُجسّدوا صورة الدولة القوية الموحّدة، خادمة الأمر العزيز، وأن يُدخلوا على الحجر واللون نبضًا حضاريًا خالدًا.

لقد كان اللون الأبيض والبني (الآجوري) في البداية عنوان البساطة، ثم أضيفت الألوان الأخرى مثل الأخضر والأزرق لتُثري اللوحات الزخرفية وتعكس إشراق الأرض المغربية.

ويشهد المؤرخون والباحثون على هذا الازدهار؛ فقد أشار أندريه باكار إلى أن الزليج المغربي عرف أولى مراحل نضجه الفني خلال العصر الموحدي بعاصمة خلافتهم، كما يؤكد جورج مارسيه أن مراكش كانت مركزًا رئيسيًا لصناعته وتصدير خبرته نحو فاس وتلمسان. وبعدها سيعرف الزليج المغربي تطورا قويا مُجَددا في عمارة الدولة المرينية وإنجازاتها الفخمة بفاس. ونفس الملاحظة تصدق في حق مراكش من خلال شهادة الرحالة ابن بطوطة عند زيارته للمدرسة المرينية بحي القصبة (المدينة الملكية) بهذه المدينة.

وسيعود الشباب للزليج بمراكش على عهد دولة الأشراف السعديين بقصر البديع وفي الأحياء الرائقة العمارة كحي القصور والمواسين. كما يشهد عليه إلى اليوم دار الشرفاء المصلوحيين ودار الشرفاء المسعوديين كشاهدين من بين عشرات المعاهد والديار.

اليوم، وبعد مرور قرون طويلة على ملحمة الزليج الباهرة الجمال بمراكش، تعرف المدينة ازدهارا استثنائيا لهذا الفن من جديد منذ الثمانيات من القرن العشرين بالمقارنة مع رواجه في المدن الأخرى. وما زال الزليج المراكشي يحتفظ بأصالته، يزين المساجد العتيقة والحديثة، ويمنح البيوت والقصور لمسة من بَلغِ العيش.

إنه ليس مجرد صناعة “تقليدية”، بل ذاكرة حية تختزن في كل قطعة خزفية تاريخًا من الكد والإبداع، ورحلة بدأت مع المرابطين، وازدهرت مع الموحدين، وبرعت مع المرنيين والسعديين. وما تزال تَتَجدد عصرا بعد عصر إلى زمن الأشراف العلويين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى