أيقظ حريق شب يوم الاثنين الأخير بسوق الكتب المستعملة، الملاصق للسور المرابطي قرب المحطة الطرقية بباب دكالة، اوجاعا واحزانا ارتبطت بذاكرة مأساوية تحكي سردية الاحراق الرمزي للثقافة، و الإجهاض المتعمد لأنوية التنوير الشعبية.
ظلت هذه الفضاءات على علاتها قبلة مفضلة للطلبة الجامعيين، والباحثين عن مصادر نادرة، والتلاميذ المنحدرين من طبقات اجتماعية هشة الساعين إلى شراء الكتب المدرسية المستعملة.
لقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتغيرت السياقات، وتدحرجت آمال الكتبيين في مهاوي سحيقة، وارتطمت بصخور الصمت والتسويف، ومؤامرة الإزاحة من المركز إلى الهامش، ومن الداخل إلى الخارج، لافساح المجال لقيم الاستهلاك والمشاهدة الفلكلورية النمطية.
ما يؤسف له حقيقة، هو أن جسد فئة الكتبيين متشظي، وتتخلله تصدعات داخلية مفتعلة، وتتحكم فيه الأهواء الذاتية، والحسابات الشخصية الضيقة، والولاءات الانتخابية، والانتهازية المريضة التي تتخذ من الكتاب حصان طروادة للحصول على التعويض في أي مكان.
لماذا تم تعطيل قرار المجلس؟
هذا الحريق الذي اندلع صبيحة يوم الاثنين الفائت في سبع محلات وخلف خسائر مادية فادحة قياسا بالمستوى الاستثماري لهذه الفئة الهشة، لفت انتباه المثقفين والمهتمين بالكتاب، وانتشر خبره في منصات التواصل الاجتماعي، والجرائد الالكترونية، يدعونا جميعا إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي حالت دون تنفيذ قرار المجلس الجماعي الصادر سنة 2012 في إحدى دوراته العادية، والقاضي بالمصادقة على مشروع "نقل الكتبيين المتوفرين على قرارات الاستغلال من جانب أسوار باب دكالة إلى عرصة البيرك ضمن المشروع المقدم في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على أساس مراعاة الجوانب المعمارية والتقنية والثقافية والتراثية والطبوغرافية والأمنية للموقع المذكور".
صحيح أن القرار مقيد بشروط مرتبطة بتدبير مجال حيوي متعدد الوجوه والابعاد، إلا أن تعثر إخراج المشروع إلى حيز الوجود في أي صيغة من الصيغ الممكنة يتنافى مع ما تستوجبه المبادرة من شجاعة وجرأة في التنفيذ. فضلا عن المصاحبة التأطيرية لهذه الفئة من أجل تطوير قدراتها في تقنيات الترويج للكتاب وقراءته وصناعته.
الكتاب المستعمل.. طائر الفينق
إن ما يفرضه حدث الاحتراق الآن وهنا، هو تعبئة المجتمع المدني من أجل المرافعة أمام صناع القرار في المدينة، واقناعهم بتهيئة فضاءات ثقافية تليق برمزية الكتاب التنويرية. ولا يمكن تحقيق هذا المطلب إلا بالالحاح المتواصل والبناء الذي ينأى عن الردود الانفعالية الظرفية التي تخمد جذوة نارها فور اشتعالها.
مما لاشك فيه أن الكتاب كطائر الفينق الذي ينبعث كل مرة من رماده، إلا أن وضعية الكتبيين لا تدعو إلى التفاؤل، وان غراب دخان آخر يلوح في الأفق. أقول قولي هذا حتى لايقال لي"لماذا لم تدق الخزان"؟.